الرئيسية
صوت الأحد مايو 24, 2009 1:40 pmالنكبة في مرآة الأدب الفلسطيني
في البدء:
استشرف الأدب الفلسطيني النكبة وحذر من ويلاتها منذ سنوات الحكم العثماني العجاف، ورصد خيوط المؤامرة التي اتضحت مراميها مع فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وواكب مجريات الأحداث وشحذ الهمم ثورة بعد ثورة، وشرح أسباب المصائب التي حلت بالشعب الفلسطيني، وكشف سوءات السماسرة ومحترفي السياسة وتجار الوطنية والشعارات الزائفة ..
نعم لقد صرخ الشعراء، وزمجر الخطباء، وأنَّ الكتاب تحت نير المرحلة وفي غلال المؤامرة .. وكانت الغاية الأولي بين غايات أدب تلك المرحلة هي التنوير والتثوير على ما يحاك للشعب الفلسطيني وأرضه، لقد كانت إبداعاتهم جميعاً ناقوس خطر دائم القرع ينذر بضياع البلاد والعباد.
وإذا كان المقام لا يتسع إلا للتمثيل فليس أصدق من قول الشاعر محمد حسن علاء الدين الذي قادته أحاسيسه المرهفة ووطنيته الصادقة إلى التحذير من الأخطار المحدقة:
قلبي يحدثني بيومٍ مفجعٍ..................
.................يُدنِي العِدَى ويبعد الأصحابا
يا قلبُ لا تنبس بأيِّ فجيعةٍ...............
...............هل خففت شكوى تبثُ عذابا؟
ومثله قول إبراهيم طوقان مستشرفاً النكبة قبل وقوعها بحوالي ثلاثة عشر عاماً:
أمامك أيـها العربيُ يومٌ......................
................تشيب لهولهِ سودُ النواصي
وأنت كما عهدتك، لا تبالي...................
...............بغير مظاهر العـبـثِ الرّخاصِ
مصيرك بات يـلـمـسـه الأداني...............
................وسار حديثـهُ بين الأقاصيَ
فلا رَحـبُ القصور غداً بباقٍ.................
..............لساكنها ولا ضيق الخصاصِ
لنا خصمان: ذو حوْلٍ وطوْلٍ.................
.................وآخر ذو احتيالٍ واقتنـاصِ
تواصوا بينهم فأتى وبالا.....................
....................وإذلالاً لنا ذاك التواصي
مناهجُ للإبادة واضحاتٌ......................
...............وبالحسنى تنفـذُ والرصاصِ
وكذلك قول برهان الدين العبوشي قبل وقوع الكارثة في قصيدة بعنوان "الوطن المبيع":
لهفي على الليث المهدد غابُه...............
................قد كانَ أجدرَ أن يموتَ بغابِهِ
والحرُّ يدْفَع عن حِماهُ بسَيْفِه................
......................فإذا تحطَّمَ سَيْفُهُ فبنابِهِ
فالمجْدُ لا يُبْنَى بِغير جَماجمٍ.................
..............والمجدُ تحْميهِ سُيوفُ غضابهِ
إن كان الاسْتقلالُ يؤخذُ عنوةً...............
...............والموتُ فيه فنحنُ مِن أربابهِ
ولم يتوان الخطباء أيضاً عن شرح أبعاد المؤامرة وخطورة الهجمة على الأرض الفلسطينية منذ وقف المحامي سليمان التاجي الفاروقي والشيخ سليم اليعقوبي في محافل يافا ومنتدياتها، ثم خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي في المحافل الجامعية والاجتماعات الشعبية..، حتى جيل خليل بيدس وخليل الخالدي وعجاج نويهض وخطبهم التنويرية التثويرية التي بلغت تخوم النكبة وهي تحذر من ويلاتها ..
أما الكتاب فقد كانت القصة التي هي من أكثر الأجناس الأدبية تأثيراً في الجماهير وأوسعها انتشاراً بين الناس الثوب الذي أُلبس أفكارهم ورؤاهم فراحوا يشرحون قتامة الواقع وأسبابها ويحذرون من ويلات المستقبل ..، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها: مذكرات دجاجة لموسى اسحق الحسيني التي صدرت عام 1943م، ومجموعة "مع الناس" التي كتب معظم قصصها محمود سيف الدين الإيراني قبيل النكبة، ومجموعة "الأخوات الحزينات" لنجاتي صدقي، وكذلك مجموعة "عابرو سبيل" التي كتبتها نجوى قعوار قبيل النكبة بقليل، وصراخ في ليل طويل التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا في القدس عام 1947.. وغيرها الكثير من القصص التي استشرف أصحابها النكبة قبل حدوثها وحاولوا جاهدين التحذير من ويلاتها ...
عوامل النكبة:
أما أسباب النكبة وتراكماتها العديدة فقد أدركها الأدباء قبل وقوع النكبة وحذروا منها، ثم توسعوا في شرح أبعادها وتصوير نتائجها بعد وقوع النكبة، ورغم تعدد روايات الأدباء التي تبين أسباب النكبة إلا أنها تعطي في مجموعها جميع الأسباب، ما يعود منها إلى فرقة الفلسطينيين وتعدد أحزابهم وسقوط نفر قليل منهم في حبائل المنتفعين والمتآمرين، أو تخاذل الموقف العربي، أو فرض الانتداب، أو وعد بلفور، أو موجات الهجرة الصهيونية المتلاحقة قبل الانتداب وبعده. وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى، منها ما نراه جلياً في خطب خطباء تلك المرحلة، وكذلك ما تعكسه دلالات القصص سالفة الذكر، وجميعها نراها أيضاً في زفرات الشعراء، ففي شعر مطلق عبد الخالق مثلاً نري تصوير فُرقة الأهل حيث يقول:
لهفي على وطنٍ تنازعَ أهلَهُ..................
...............عبثُ الرءوسِ وضيعةُ الأذنابِ
الضغنُ والشحناءُ بعضُ خُطوبِهِ...............
...................ومصارعُ الأخلاقِ والآدابِ
وتبلبلُ الرأيِ الشتيتِ وعزةٌ..................
.....................موءودةٌ وتناحرُ الأحزابِ
وكذلك في قول محمود سليم الحوت الذي يعد أول من صور النكبة بعد حدوثها:
ولستُ أرغبُ في إفشاءِ ما فعلتْ..............
................بنا الزَّعاماتُ حتى مزَّتُوا الوَطنا
ما بَيْنَ حردان لا تصفُو مشارِبُهُ...............
...............وبَيْنَ حيران يخشى المنْطِقَ العلنا
آمنْتُ إلاَّ بما حاكتهُ شِرذمَةٌ.....................
..............جرَّتْ على دارِها الأحزانَ والمحنا
لو أنَّها أخلَصَتْ للشَّعبِ لاحتجبتْ..............
.............عن مَسْرح الهَزْل تبغي غيره مهنا
يكفي فِلَسْطين يا أسباب نكبتها................
......................جِناية أنكم سُدْتُم بها زمنا
وقول إبراهيم طوقان في تعرية أصحاب المطامع الشخصية ومحترفي السياسة الساعين إلى الوجاهة بارتداء ثوب الوطنية الزائف:
يا مـنْ حـمـلـتَ الفأسَ...............
...............تهدِمها على أنقاضـها
أُقعـدْ فمـا أنـتَ الذي..................
...............يـســعى إلى إنهاضـها
وانظـرْ بعينـيك الذئابَ...............
...............تـعــبّ فـي أحواضـها
وطـنٌ يـبـاع ويـشـــترى...............
.............وتصيحُ: "فليحىَ الوطنْ"!
لـو كنتَ تبغـي خـيـرَهُ..................
...............لبذلتَ من دمـك الثمن
ولقمـتَ تـضـمـدُ جرحـهُ...............
...............لو كنتَ من أهلِ الفطن
وقول إبراهيم الدباغ في تصوير الموقف العربي:
أين الفتى العربيُ المستعانُ به...............
...............يومَ الكَرِيهةِ هل ضاعَ الفتى العَرَبي؟
متى أرى القومَ حولَ الصخرةِ اجتمعُوا...............
...............بعدَ التفرُّقِ من ناءٍ ومُقْتَرِبِ
وما نراه في قول محي الدين الحاج عيسى الصفدي في وعد بلفور الذي كان السبب المباشر في مأساة فلسطين ، متوعداً اليهود بسوء العاقبة:
كَمْ كانَ وعدُكَ يا بلفورَ مَشْأَمةً...............
...............أعوذُ باللهِ من شُؤمِ المواعيدِ
جرَّ البلاءَ وأسبابَ البلاءِ إلى................
...............أرضٍ مباركةِ الأمْصارِ والبيدِ
ظنَّ اليهودُ بأن الوعدَ أرجعَهُم...............
.....................لِعَهدِ يوشع أم أيَّامِ داودِ
وما دَروا أنَّ مقتَ اللهِ حلَّ بِهمْ...............
..............ما حيلةُ العَبْدِ في تقديرِ معبودِ
وقول إبراهيم الدباغ مندداً بوعد بلفور وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين:
ما وعْدُ بلفورِ من أمرِ السماءِ ولا...............
...............في الجَدْبِ من أرْضِنَا زرعٌ لِمُحْتَطبِ
هل وعْدُ بلفور تشريعٌ إذا فرطتْ................
...................أُغلوطةٌ منه تدعو الناسَ للعَجَبِ؟
ما الانتدابُ أمرْمَاهُ وغايتُهُ......................
......................إذلالُ حُرٍّ أبيٍّ باسمِ غير أبيّ؟
أم الانتدابُ يُرامُ الاغتصابُ به.................
.....................معْنى وأحرفُه في ذِمَّةِ العربِ؟
مشاهد النكبة في الأدب الفلسطيني:
منذ وقوع النكبة لم يتوان الأدب بفنونه المختلفة عن شرح أبعادها وتصوير مشاهدها واستنهاض الهمم الفلسطينية والعربية والعمل على كسب تعاطف وتأييد العالم الحر، وتحريض الجميع ضد الأفعال الوحشية والمذابح الجماعية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ثم متابعة جرائم المحتل وممارساته منذ النكبة حتى يومنا هذا بكل ما اشتملت عليه من أحداث وحشية ومغالطات في تغيير معالم الخريطة الفلسطينية عبر سياسة مصادرة الأراضي والعمل على تهويدها ...
وإذا كنا ندرك أن هذه العجالة لا يمكنها بحال متابعة دور الأجناس الأدبية المختلفة النضالي والوقوف على نماذجها التي هي أكثر من أن يحاط بها في هذا المقام فإننا نكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج القصصية، ثم الاستشهاد بالنزر القليل من النماذج الشعرية التي يتسع لها المقام للتأكيد على صحة ما ذهبنا إليه.
فعلى صعيد القصة نشير إلى كتابات محمود سيف الدين الإيراني ونجاتي صدقي وجبرا إبراهيم جبرا ...، وكتابات يوسف جاد الحق التي تمثل مرحلة الصدمة وتصور أهوالها، ثم كتابات سميرة عزام - الساعة والإنسان مثلاً - التي تجسد مرحلة تأصيل الهوية الفلسطينية، ثم كتابات غسان كنفاني التي منها رجال في الشمس وما تبقى لكم وأرض البرتقال الحزين وموت سرير رقم 12 .. التي تمثل مرحلة نضوج الأدب الفلسطيني كأدب قضية وصمود ومقاومة، ثم مرحلة ما بعد نكسة 1967م التي يمكن أن نمثل لها بسداسية الأيام الستة كأنموذج من الأدب الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وكتابات جيل السبعينات أمثال: إبراهيم الزنط وأكرم هنية وزكي العيلة وجمال بنورة وعبد الله تايه وسامي الكيلاني ومحمد أيوب وصبحي حمدان ...، ثم الإبداعات الفلسطينية في الشتات التي نستذكر منها كتابات ماجد أبو شرار ومحمود شقير وخليل السواحري ويحي يخلف وليانة بدر... وتستمر الروافد الثلاثة في مواكبة المرحلة النضالية تأكيداً على عدالة القضية ومشروعية الحق الفلسطيني، وتحريضاً وتثويراً حتى تنخرط في سلك الانتفاضة المجيدة.
أما على صعيد الإبداع الشعري فيمكن أن نستذكر في هذا المقام مشهداً من مشاهد النكبة التي صورها راشد حسين في قوله:
في الخيامِ السُّودِ، في الأغلالِ، في ظلِ جهنمْ
سجنوا شعبي وأوصَوْه بألاّ يتكلمْ
هددوه بسِياطِ الجُندِ، بالموتِ المُحتمْ
أو بقطْعِ اللقمةِ النَّتنةِ، إنْ يوماً تألمْ
ومضَوْا عنه وقالوا عِشْ سعيداً في جهنمْ
ها هُنا في الخيمةِ السوداءِ بنتٌ وأبوها
وفتاةٌ لفظتْ أنفاسَهَا ما أسعفُوها
كفَّنُوهَا بثيابِ الليلِ سُوداً، كَفَّنوهَا
دفنوهَا في ظلامِ الليلِ، سِرّاً دفنُوهَا
لينالوا مؤنَ الطفلةِ من قُوتِ جهنمْ
في البدء:
استشرف الأدب الفلسطيني النكبة وحذر من ويلاتها منذ سنوات الحكم العثماني العجاف، ورصد خيوط المؤامرة التي اتضحت مراميها مع فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وواكب مجريات الأحداث وشحذ الهمم ثورة بعد ثورة، وشرح أسباب المصائب التي حلت بالشعب الفلسطيني، وكشف سوءات السماسرة ومحترفي السياسة وتجار الوطنية والشعارات الزائفة ..
نعم لقد صرخ الشعراء، وزمجر الخطباء، وأنَّ الكتاب تحت نير المرحلة وفي غلال المؤامرة .. وكانت الغاية الأولي بين غايات أدب تلك المرحلة هي التنوير والتثوير على ما يحاك للشعب الفلسطيني وأرضه، لقد كانت إبداعاتهم جميعاً ناقوس خطر دائم القرع ينذر بضياع البلاد والعباد.
وإذا كان المقام لا يتسع إلا للتمثيل فليس أصدق من قول الشاعر محمد حسن علاء الدين الذي قادته أحاسيسه المرهفة ووطنيته الصادقة إلى التحذير من الأخطار المحدقة:
قلبي يحدثني بيومٍ مفجعٍ..................
.................يُدنِي العِدَى ويبعد الأصحابا
يا قلبُ لا تنبس بأيِّ فجيعةٍ...............
...............هل خففت شكوى تبثُ عذابا؟
ومثله قول إبراهيم طوقان مستشرفاً النكبة قبل وقوعها بحوالي ثلاثة عشر عاماً:
أمامك أيـها العربيُ يومٌ......................
................تشيب لهولهِ سودُ النواصي
وأنت كما عهدتك، لا تبالي...................
...............بغير مظاهر العـبـثِ الرّخاصِ
مصيرك بات يـلـمـسـه الأداني...............
................وسار حديثـهُ بين الأقاصيَ
فلا رَحـبُ القصور غداً بباقٍ.................
..............لساكنها ولا ضيق الخصاصِ
لنا خصمان: ذو حوْلٍ وطوْلٍ.................
.................وآخر ذو احتيالٍ واقتنـاصِ
تواصوا بينهم فأتى وبالا.....................
....................وإذلالاً لنا ذاك التواصي
مناهجُ للإبادة واضحاتٌ......................
...............وبالحسنى تنفـذُ والرصاصِ
وكذلك قول برهان الدين العبوشي قبل وقوع الكارثة في قصيدة بعنوان "الوطن المبيع":
لهفي على الليث المهدد غابُه...............
................قد كانَ أجدرَ أن يموتَ بغابِهِ
والحرُّ يدْفَع عن حِماهُ بسَيْفِه................
......................فإذا تحطَّمَ سَيْفُهُ فبنابِهِ
فالمجْدُ لا يُبْنَى بِغير جَماجمٍ.................
..............والمجدُ تحْميهِ سُيوفُ غضابهِ
إن كان الاسْتقلالُ يؤخذُ عنوةً...............
...............والموتُ فيه فنحنُ مِن أربابهِ
ولم يتوان الخطباء أيضاً عن شرح أبعاد المؤامرة وخطورة الهجمة على الأرض الفلسطينية منذ وقف المحامي سليمان التاجي الفاروقي والشيخ سليم اليعقوبي في محافل يافا ومنتدياتها، ثم خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي في المحافل الجامعية والاجتماعات الشعبية..، حتى جيل خليل بيدس وخليل الخالدي وعجاج نويهض وخطبهم التنويرية التثويرية التي بلغت تخوم النكبة وهي تحذر من ويلاتها ..
أما الكتاب فقد كانت القصة التي هي من أكثر الأجناس الأدبية تأثيراً في الجماهير وأوسعها انتشاراً بين الناس الثوب الذي أُلبس أفكارهم ورؤاهم فراحوا يشرحون قتامة الواقع وأسبابها ويحذرون من ويلات المستقبل ..، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها: مذكرات دجاجة لموسى اسحق الحسيني التي صدرت عام 1943م، ومجموعة "مع الناس" التي كتب معظم قصصها محمود سيف الدين الإيراني قبيل النكبة، ومجموعة "الأخوات الحزينات" لنجاتي صدقي، وكذلك مجموعة "عابرو سبيل" التي كتبتها نجوى قعوار قبيل النكبة بقليل، وصراخ في ليل طويل التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا في القدس عام 1947.. وغيرها الكثير من القصص التي استشرف أصحابها النكبة قبل حدوثها وحاولوا جاهدين التحذير من ويلاتها ...
عوامل النكبة:
أما أسباب النكبة وتراكماتها العديدة فقد أدركها الأدباء قبل وقوع النكبة وحذروا منها، ثم توسعوا في شرح أبعادها وتصوير نتائجها بعد وقوع النكبة، ورغم تعدد روايات الأدباء التي تبين أسباب النكبة إلا أنها تعطي في مجموعها جميع الأسباب، ما يعود منها إلى فرقة الفلسطينيين وتعدد أحزابهم وسقوط نفر قليل منهم في حبائل المنتفعين والمتآمرين، أو تخاذل الموقف العربي، أو فرض الانتداب، أو وعد بلفور، أو موجات الهجرة الصهيونية المتلاحقة قبل الانتداب وبعده. وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى، منها ما نراه جلياً في خطب خطباء تلك المرحلة، وكذلك ما تعكسه دلالات القصص سالفة الذكر، وجميعها نراها أيضاً في زفرات الشعراء، ففي شعر مطلق عبد الخالق مثلاً نري تصوير فُرقة الأهل حيث يقول:
لهفي على وطنٍ تنازعَ أهلَهُ..................
...............عبثُ الرءوسِ وضيعةُ الأذنابِ
الضغنُ والشحناءُ بعضُ خُطوبِهِ...............
...................ومصارعُ الأخلاقِ والآدابِ
وتبلبلُ الرأيِ الشتيتِ وعزةٌ..................
.....................موءودةٌ وتناحرُ الأحزابِ
وكذلك في قول محمود سليم الحوت الذي يعد أول من صور النكبة بعد حدوثها:
ولستُ أرغبُ في إفشاءِ ما فعلتْ..............
................بنا الزَّعاماتُ حتى مزَّتُوا الوَطنا
ما بَيْنَ حردان لا تصفُو مشارِبُهُ...............
...............وبَيْنَ حيران يخشى المنْطِقَ العلنا
آمنْتُ إلاَّ بما حاكتهُ شِرذمَةٌ.....................
..............جرَّتْ على دارِها الأحزانَ والمحنا
لو أنَّها أخلَصَتْ للشَّعبِ لاحتجبتْ..............
.............عن مَسْرح الهَزْل تبغي غيره مهنا
يكفي فِلَسْطين يا أسباب نكبتها................
......................جِناية أنكم سُدْتُم بها زمنا
وقول إبراهيم طوقان في تعرية أصحاب المطامع الشخصية ومحترفي السياسة الساعين إلى الوجاهة بارتداء ثوب الوطنية الزائف:
يا مـنْ حـمـلـتَ الفأسَ...............
...............تهدِمها على أنقاضـها
أُقعـدْ فمـا أنـتَ الذي..................
...............يـســعى إلى إنهاضـها
وانظـرْ بعينـيك الذئابَ...............
...............تـعــبّ فـي أحواضـها
وطـنٌ يـبـاع ويـشـــترى...............
.............وتصيحُ: "فليحىَ الوطنْ"!
لـو كنتَ تبغـي خـيـرَهُ..................
...............لبذلتَ من دمـك الثمن
ولقمـتَ تـضـمـدُ جرحـهُ...............
...............لو كنتَ من أهلِ الفطن
وقول إبراهيم الدباغ في تصوير الموقف العربي:
أين الفتى العربيُ المستعانُ به...............
...............يومَ الكَرِيهةِ هل ضاعَ الفتى العَرَبي؟
متى أرى القومَ حولَ الصخرةِ اجتمعُوا...............
...............بعدَ التفرُّقِ من ناءٍ ومُقْتَرِبِ
وما نراه في قول محي الدين الحاج عيسى الصفدي في وعد بلفور الذي كان السبب المباشر في مأساة فلسطين ، متوعداً اليهود بسوء العاقبة:
كَمْ كانَ وعدُكَ يا بلفورَ مَشْأَمةً...............
...............أعوذُ باللهِ من شُؤمِ المواعيدِ
جرَّ البلاءَ وأسبابَ البلاءِ إلى................
...............أرضٍ مباركةِ الأمْصارِ والبيدِ
ظنَّ اليهودُ بأن الوعدَ أرجعَهُم...............
.....................لِعَهدِ يوشع أم أيَّامِ داودِ
وما دَروا أنَّ مقتَ اللهِ حلَّ بِهمْ...............
..............ما حيلةُ العَبْدِ في تقديرِ معبودِ
وقول إبراهيم الدباغ مندداً بوعد بلفور وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين:
ما وعْدُ بلفورِ من أمرِ السماءِ ولا...............
...............في الجَدْبِ من أرْضِنَا زرعٌ لِمُحْتَطبِ
هل وعْدُ بلفور تشريعٌ إذا فرطتْ................
...................أُغلوطةٌ منه تدعو الناسَ للعَجَبِ؟
ما الانتدابُ أمرْمَاهُ وغايتُهُ......................
......................إذلالُ حُرٍّ أبيٍّ باسمِ غير أبيّ؟
أم الانتدابُ يُرامُ الاغتصابُ به.................
.....................معْنى وأحرفُه في ذِمَّةِ العربِ؟
مشاهد النكبة في الأدب الفلسطيني:
منذ وقوع النكبة لم يتوان الأدب بفنونه المختلفة عن شرح أبعادها وتصوير مشاهدها واستنهاض الهمم الفلسطينية والعربية والعمل على كسب تعاطف وتأييد العالم الحر، وتحريض الجميع ضد الأفعال الوحشية والمذابح الجماعية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ثم متابعة جرائم المحتل وممارساته منذ النكبة حتى يومنا هذا بكل ما اشتملت عليه من أحداث وحشية ومغالطات في تغيير معالم الخريطة الفلسطينية عبر سياسة مصادرة الأراضي والعمل على تهويدها ...
وإذا كنا ندرك أن هذه العجالة لا يمكنها بحال متابعة دور الأجناس الأدبية المختلفة النضالي والوقوف على نماذجها التي هي أكثر من أن يحاط بها في هذا المقام فإننا نكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج القصصية، ثم الاستشهاد بالنزر القليل من النماذج الشعرية التي يتسع لها المقام للتأكيد على صحة ما ذهبنا إليه.
فعلى صعيد القصة نشير إلى كتابات محمود سيف الدين الإيراني ونجاتي صدقي وجبرا إبراهيم جبرا ...، وكتابات يوسف جاد الحق التي تمثل مرحلة الصدمة وتصور أهوالها، ثم كتابات سميرة عزام - الساعة والإنسان مثلاً - التي تجسد مرحلة تأصيل الهوية الفلسطينية، ثم كتابات غسان كنفاني التي منها رجال في الشمس وما تبقى لكم وأرض البرتقال الحزين وموت سرير رقم 12 .. التي تمثل مرحلة نضوج الأدب الفلسطيني كأدب قضية وصمود ومقاومة، ثم مرحلة ما بعد نكسة 1967م التي يمكن أن نمثل لها بسداسية الأيام الستة كأنموذج من الأدب الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وكتابات جيل السبعينات أمثال: إبراهيم الزنط وأكرم هنية وزكي العيلة وجمال بنورة وعبد الله تايه وسامي الكيلاني ومحمد أيوب وصبحي حمدان ...، ثم الإبداعات الفلسطينية في الشتات التي نستذكر منها كتابات ماجد أبو شرار ومحمود شقير وخليل السواحري ويحي يخلف وليانة بدر... وتستمر الروافد الثلاثة في مواكبة المرحلة النضالية تأكيداً على عدالة القضية ومشروعية الحق الفلسطيني، وتحريضاً وتثويراً حتى تنخرط في سلك الانتفاضة المجيدة.
أما على صعيد الإبداع الشعري فيمكن أن نستذكر في هذا المقام مشهداً من مشاهد النكبة التي صورها راشد حسين في قوله:
في الخيامِ السُّودِ، في الأغلالِ، في ظلِ جهنمْ
سجنوا شعبي وأوصَوْه بألاّ يتكلمْ
هددوه بسِياطِ الجُندِ، بالموتِ المُحتمْ
أو بقطْعِ اللقمةِ النَّتنةِ، إنْ يوماً تألمْ
ومضَوْا عنه وقالوا عِشْ سعيداً في جهنمْ
ها هُنا في الخيمةِ السوداءِ بنتٌ وأبوها
وفتاةٌ لفظتْ أنفاسَهَا ما أسعفُوها
كفَّنُوهَا بثيابِ الليلِ سُوداً، كَفَّنوهَا
دفنوهَا في ظلامِ الليلِ، سِرّاً دفنُوهَا
لينالوا مؤنَ الطفلةِ من قُوتِ جهنمْ
